كان حباماتزال جالسةً هناك بكل هدوء تتوشَّح العتمة التي أرخت سدولها على المكان، تنصت بعمقٍ للغناء الذي تسَّرب سلاماً من خلال تصدّعاتها إلى أعماق أعماقها، ولما بدأت تمتلئ به أخذت تطفو رويداً رويداً متجهةً نحو عالم عُلْويٍ مليءٍ بالسكينة والأمان...ها هي تحطم رقماً قياسياً في ضبط النفس والثبات في المكان كالغرس وهي الفتاة الممتلئة حماساً وحركةً، المتمردة دوماً، ثم أخذت تسكر بلذة هذه المواويل المنسكبة على سمعها مزيجاً عذباً من الأصوات والألحان والمعاني الزجليَّة، الحزينة السعيدة، القديمة الجديدة، فبعثت في روحها عطر الملحمة ونشرت في نفسها شذا التضحية فأنستها أنها آلام ومجدَّتها على أنها الآمال! وأخيراً بدأ الأمر يخرج عن سيطرتها! كلا لن تستطيع أن تلتزم مكانها أكثر!! فلقد راحت روحها تهتز وتطرب ومن قيود الانضباط تتسرب!! ذلك أنَّ الأرواح قائدة الأجساد، ترتقي الأرواح فتحلق الأجساد بتحليقها وتنتكس الأرواح فتهبط الأجساد بهبوطها!! ولمَّا أخذت الفرقة تغنّي ((يا ظريف الطول وكَف تاكَولك رايح على الغربة وبلادك أحسنلك خايف يا زريف تـــــــــروح وتتمــــــلَّك وتعاشـــــــــــــر الغرب وتنســـاني أنا)) اشتعل الحماس في نفوس الجماهير وعلا التصفيق، وارتفعت المعنويات، وانضمَّت إلى الحشود الملتهبة وأخذت ترقص! ثم لمَّا اتبعتها الفرقة بغناء ((عليِّ الكوفــــية عليِّ ولولح فيـــــــــــــها غنى عتابا وميجانا وسامر فيـــــــــــــــها هز الكتف بحنَّية جفرا عتابا ودحيَّة وخلي البــــــــــارود يهلل ويحليــــــــــــها)) شعرت أنَّ البارود فعلاً فعلاً اشتعل وأشعل الأمل الجميل والأمنيات الملتهبة وهكذا لم تبقَ أية فتاةٍ جالسةً على مقعدها! فلقد تحلَّقت جميع الفتيات وأخذن يدبكن! وكأنَّ في اجتماع الفتيات على الدَّبكة تضامنٌ من نوعٍ آخر وكأنَّ في ضرب الأرض بالأرجل تأكيدٌ أنَّ جذورنا ضاربة هنا في أعماق هذه الأرض لا نغادرها ولا تغادرنا، إنها نوع من الرقص الجماعي المتحفظ ينشر في النفوس الحماسة والهِمَّة ويزيل عنها الهم والغَّمة!! وبعد مشوار رقص طويل، علت فيه الفتيات ونزلن، قمن فيه وقعدن، تمايلن يسرةً ويمنى، أماماً وخلفاً، وتبادلن الأماكن والتصفيق. |
